الاثنين، 2 ديسمبر 2013

بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين
المؤنس المعين،على  الدرالثمين
تأليف الشيخ، الهادي الغربي

مقدمة في علم الأصول


قال ابن عاشر- رحمه الله – تعالى- في نظمه الشهير- المرشد المعين على الضروري من علوم الدين :

( مقدمة من الأصول، معينة في فروعها على الوصول)

الشرح :
قدم ابن عاشر- عليه سحائب الرحمة - بين يدي الحديث في فقه الفروع، مقدمة، موجزة من علم الأصول، تحدث فيها عن الحكم الشرعي، وأقسامه، ووسائله، كي يستعين بها دارس فروع فقه الأصول، على معرفة حقائق أحكام تلك الفروع الفقهية، كمعرفة أن الواجب - مثلا- ما طلب طلبا جازما، وأن المندوب ما طلب طلبا غير جازم، ونحو ذلك من الأحكام الآتي بيانها، إن شاء الله ـ تعالى ـ ، كالمحرم، و المكروه، و المباح، وكفى بذلك إعانة، كما قال الشيخ: محمد بن احمد ميارة، المالكي، في كتابه الدرالثمين، والمورد المعين، شرح المرشد المعين، على الضروري من علوم الديــــــن.

وأما قوله: (مقدمة...) فخبر محذوف لمبتدأ محذوف، تقديره هذه مقدمة.

وقوله: (من الأصول...) جاء على حذف مضاف، تقديره علم، أو فن، أي: من فن الأصول، وهو صفة أولى لمقدمة، متعلقة بمحذوف تقديره، منقولة، أي مأخوذة  من علم الأصول.
وقوله: (معينة...)  وصف ثان لمقدمة، أي يستعان بمعرفتها، في فروع الأصول المشار إليها آنفا، على الوصول إلى معرفة أحكامها، وهو معنى قوله: (على الوصول).

وبهذا الوصف ـ كما قال الشيخ ـ  رحمه الله ـ تعالى ـ  : (يتعلق المجروران بعده) أي: بعد  قول الناظم: (في فروعها)، وقوله: (على الوصول).

معنى مقدّمة

ومقدّمة ٬ بكسر الدال٬ أفصح من فتحها٬ أي: متقدّمة.

ومقدمة الكتاب: هي الفصل الذي يعقد في أوله٬ وإن شئت قلت: هي ما يتوقف عليه الشروع في محتواه٬ أوهي خلاصة قدّمت أمام المطلوب٬ لارتباط بينهما٬ وتعريف  به .  

وفي هذا المعنى يقول الشيخ ميارة٬ في مقدّمة كتاب الاعتقاد٬ من الدر الثمين: (ومقدّمة ٬ بكسر الدال٬  بمعنى متقدّمة، من قدم اللازم٬ بمعنى تقدم٬ وبفتحها من قدم المتعدي٬ بمعنى أن الغير قدمها.)، ثم قال:

(وفي مختصر السعد: والمقدّمة٬ مأخوذة من مقدّمة الجيش للجماعة المتقدّمة منه٬ من قدم بمعنى تقدّم٬ يقال مقدمة العلم٬ لما يتوقف عليه الشروع في مسائله٬ ومقدمة الكتاب٬ لطائفة من كلامه قدمت أمام المقصود٬ لارتباط له بها٬ وانتفاع بها فيه٬ والفرق بين مقدمة العلم، و مقدمة الكتاب٬ مما خفي على كثير من الناس.) ـ اھ

ومعنى هذا: ان كلمة ( مقدمة) قد يراد بها، مقدمة الجيش، وهي الجماعة، او الكوكبة المتقدمة منه، وقد يراد بها مقدمة العلم، وهي التي مايتوقف عليه الشروع في مسائله، بخلاف مقدمة الكتاب، فانه يراد بها الفصل الذي يعقد في اوله، وبهذا يظهرالفرق بين قولهم: (مقدمة العلم)، وقولهم: (مقدمة الكتاب).

تعريف الأصل

قوله: (من الأصول...)
الشرح :
الأصل لغة: يجمع على أصول٬ وهو أسفل الشيء٬ ومنه٬ قولهم: (أسفل الجبل) أي: أصله الذي يقام عليه، وأصل الشجرة٬ أي: طرفها الثابت في الأرض٬ وأصل الجدار، أي: أساسه.

والخلاصة٬ هي: أن الأصل ما قابل الفرع ولذلك قالوا: انه ما بني على غيره٬ ومن ذلك أصول الفقه٬ أي: ادلته، وقواعده.

تعريف الفرع

والفرع لغة: يجمع على فروع٬ وهو: ما بني على غيره٬ كالأساس يبنى عليه الجدار٬ وفروع الشجرة٬ على أصولها٬ وفروع الفقه لأصولها.

تعريف علم الأصول

وأما علم الأصول، فهو كما عرفه الفقهاء: (النظر في الادلة الشرعية، لاستنباط الاحكام، والتكاليف، وفق القواعد المقررة في هذا العلم).

وهذه الأدلة التي ذكروا، على ضربين، اجملها الشيخ: محمد ميارة، في كتابه الدرالثمين، والمورد المعين، حيث قال:

أ‌-             أدلة إجمالية، (أي: غيرالمعينة، كمطلق الامر، والنهي، وفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاجماع، والقياس، والاستصحاب).

ولبيان المراد من بعض هذه الدلائل، قال: (المبحوث عن اولها، بانه للوجوب، والثاني، بانه للمحرمة، كذلك البواقي، بانها حجج، وغيرذلك مما ذكرفي الفن).

هذا، واتماما للفائدة، نشير الى ان تلك الادلة الاجمالية، وهاتيك القواعد الكلية، انما استنسخت من ممارسة الفقهاء المجتهدين، لمسالك الاجتهاد في استنباط الاحكام من ادلتها التفصيلية ـ الاتي ذكرها، قريبا، ان شاء الله ـ  وهي مسمى (علم الاصول)، الذي كان ـ كما يقول، في المقدمة، العلامة ابن خلدون ـ رحمه الله، تعالى ـ: (اول من كتب فيه، الشافعي ـ رضي الله عنه ـ املى فيه رسالته الشهيرة)، ( الرسالة).

والدليل لغة: هو الدال، وهو المرشد،  والهادي الى أي شئ، ويطلق على مايستدل به، وعلى كل مافيه دلالة، وارشاد.

واما الدليل في الاصطلاح الفقهي: فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظرفيه الى حكم شرعي، عملي، على سبيل القطع، اوالظن.

واما عن ادلة اصول الفقه المتفق عليها، فهي: الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس، والمختلف فيها، سبعة، هي على مقتضى مذهبنا المالكي: قول الصحابي، وعمل اهل المدينة، والاستحسان، والاستصحاب، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والعرف. 

أدلة تفصيلية، (وذلك، كآيات، وأحاديث الأحكام، وما يتفرع عنهما من مختلف الأقيسة، وضروب الاجماعات، كقوله ـ تعالى- : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً{103} ـ النساء، وقوله –تعالى-:{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً{32} ـ الاسراء، وكصلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكعبة، فيما اخرجه البخاري، والاجماع على ان لبنت الابن السدس، مع بنت الصلب، حيث لاعاصب لهما، وقياس الارز، على البر، لامتناع بيع بعضه الا مثلا بمثل، يدا بيد، كما رواه مسلم، واستصحاب الطهارة لمن شك في بقائها).
 
تعريف علم الفقه

الفقه لغة: كلمة مشتقة من فقه، بكسر القاف، يفقه، بفتحها، فقها، بكسر الفاء وسكون القاف، علم الأمر، وأدركه بجهد، وتكلّف، فهم غرض المتكلم من كلامه.
وبناء على هذا، يعلم أن الفقه في اللسان العربي٬ ليس ذلك الفهم السطحي٬ البسيط٬ الذي يدرك بداهة دونما جهد ذهني، وإنما هو كما قال الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى- هو:(الفهم الدقيق للأشياء)، و لذلك فإنه لا يقال مثلا- فقهت أن السماء فوقنا، أو فقهت أن الشمس تشرق من المشرق، فإدراك مثل هذه الحالات، وفهمها لا يحتاج إلى مجهود ذهني، أو إلى مشقة، بل انها معروفة بداهة.
وفي هذا المعنى - والله أعلم- يقول – تعالى- :{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ{81} ـ التوبة،  - وقال ـ تعالى- على لسان موسى- عليه السلام-: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي{25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي{26} وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي{27} يَفْقَهُوا قَوْلِي{28} ـ طه، وقال – سبحانه-:{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً{78} ـ النساء.
وأماكلمة فقّه، بفتح الفاء، وتضعيف القاف، وفتحها، يفقّه، بكسرالقاف، وتضعيفها، تفقيها، أي :علّم غيره، وفهّمه وصيّره فقيها.

بخلاف كلمة، فقه، بفتح القاف، فقها، بسكونها،أي: غلب غيره في الفقه.

أو كلمة فقه، بضم القاف، فقاهة، بفتحها، فإنما يراد بها من صارالفقه، والفهم، والادراك، سجية له، اي: وكأنه اصبح المعيا، سريع الفهم، كما قال الشاعر:
الالمعي الذي يظن بك الظــ
ــن كأن قد رأى وسمعــــــا
هذا ـ وكما قيل ـ : قد غلب اطلاق لفظ (الفقــه) على علم الدين، لسيادته، وشرفه، وفضله، على سائر انواع العلم، كما غلب النجم على الثريا.
وقد جعله العرف (بعلم الشريعة)، شرفها الله ـ تعالى ـ وتخصيصها (بعلم الفروع).
الفقه اصطلاحا: وأما الفقه اصطلاحا، فهو العلم بالأحكام الشرعية، العملية،  المكتسبة من الأدلة التفصيلية، و إن شئت قلت هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الإجتهاد، كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب وأن الزكاة واجبة في مال الصبي، وغير واجبة في الحلي المباح، وان القتل بمثقل يوجب القصاص، وما إلي ذلك من الأحكام الشرعية المستنبطة من الأدلة التفصيلية، والتي طريقها الاجتهاد.
الاجتهاد لغة: هوبذل الجهد، والطاقة، في سبيل التحصيل على امرمادي، اوغيره، وبناء على هذا، فانه ـ كماقيل ـ لفظ لايستعمل الا فيما يقتضي من صاحبه جهدا ومشقة، فيقال مثلا: اجتهدت في فهم نصوص القرءان الكريم، ولايقال: اجتهدت في فهم ان ايام الاسبوع سبعة.
الاجتهاد اصطلاحا: واما الاجتهاد عند علماءالاصول، فهو بذل الفقيه الوسع في استنباط الاحكام الشرعية من ادلتها.
واما ما ليس طريقه الإجتهاد، كالعلم بأن الصلوات الخمس فريضة، وأن الزنى محرم، أو الأحكام الإعتقادية، كالعلم بالله ـ سبحانه ـ وتعالي - ، وصفاته ونحو ذلك من المسائل القطعية، فلا يسمي كل ذلك فقها، لأن معرفته يشترك فيها العام، والخاص.      
ووفق هذا التعريف، نقرر، أن الفقه لا يتناول إلا علم المجتهد .
وعلم المجتهد هنا، يراد به الظن، أي: المعرفة التي بمعني العلم، لأن المراد بذلك  إنما هو ظن المجتهد الذي لقوته صار قريبا من العلم.
وإنما قيد علم المجتهد، بالظن ـ كما قال الشيخ ميارة ـ :( لأن المعرفة في غير هذا الموضع، مرادفة للعلم، الذي هو الإدراك الجازم، المطابق، الثابت، كما هو الاصطلاح المشهور.
وإنما لم تجعل المعرفة مرادا منها الظن ابتداء، من غير حاجة إلى جعلها بمعنى العلم أولا، إتباعا للشائع، فان الشائع إطلاقه على الظن لفظة العلم دون المعرفة.) اهـ .
وأما قولهم:(هوالعلم بالأحكام)، فهذا قيد خرج به العلم بالذات، والصفات، والأفعال، ذلك ان العلم بهذه الأشياء ومعرفتها، لا يسمى فقها.
والمراد بالأحكام النسب التامة، التي هي ثبوت أمر لآخر، إيجابا، أو سلبا.
وقولهم:(الشرعية)، أي: أن تلك الأحكام لا بد أن تكون مأخوذة من الشرع بالتصريح، أو الاستنباط ، وبهذا القيد خرجت الأحكام العقلية الضرورية، كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين، وخرجت ـ أيضا - الأحكام النظرية، كالحكم بأن الأثر لا بد له من مؤثر، وكذلك خرجت الأحكام الحسية، كالحكم بأن الجدار طوب، وحجر، وخرجت الأحكام العادية، كالحكم بأن النار محرقة، فمعرفة هذه الأحكام كلها، لا يسمى فقها.
وقولهم:(العملية)، أي: أن الأحكام الشرعية لا بد أن تكون متعلقة بكيفية عمل قلبي، كالعلم بوجوب النية في الوضوء، أوعمل بدني، كالعلم بسنية الوتر، وبهذا القيد خرجت، الأحكام الاعتقادية، التي لم تتعلق بكيفية عمل، كالعلم بأن الله ـ تعالى- واحد، وأنه ـ سبحانه - يجب له الكمال، ويستحيل عليه النقص، إذ لا يسمى العلم بهذا، فقها.
وقولهم:(المكتسبة)، أي: أن العلم بالأحكام الشرعية، العملية، لا بد أن يكون مكتسبا، اي: مأخوذا بالنظر، والتأمل، وإعمال الفكرفي الأدلة الشرعية، وبهذا القيد خرج علم الله ـ تبارك وتعالى- وعلم كل نبي، وعلم كل ملك، فلا يسمى فقها، لانه ليس مكتسبا.   
وقولهم: (من الأدلة التفصيلية)، أي: أن اكتساب الأحكام الشرعية العملية، لا بد أن يكون من الأدلة التفصيلية، التي هي الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وذلك بالنظر فيها، والاستنباط منها، وبهذا القيد ـ كما جاء في كتاب، ايصال السالك، في اصول الامام مالك، لابن الطالب: (يخرج علم المقلدين المخلصين، الذين ليس لهم إلا حفظ فروع المذهب، وضبطها، ككل علماء الأمة، حيث لا يسمى علمهم بتلك الفروع فقها، وإنما يسمى نقلا، ورواية، ذلك أنهم لم يكتسبوا تلك الفروع بالنظر في الأدلة التفصيلية، بل اكتسبوها بالنقل، والرواية من بطون الكتب المعتمدة، إذ ليس لهم فيها إلا مجرد نقلها للناس، وروايتها، وحفظها، ولا حجة لهم على كونها أحكاما شرعية، إلا لأنها منقولة بالتواتر عن المجتهدين الذين استخرجوها بالنظر، والاستنباط من الأدلة التفصيلية، التي هي الكتاب، والسنة، وفتوى المجتهد، حكم الله - تعالى- في حقه، وحق مقلديه) اهـ .
... والله اعلم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام، على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.

... يتبع ان شاء الله ـ تعالى ـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق